سميرة موسى عليان
سميرة موسى عليان الابنة الرابعة لوالدها الذي عزم على ألا يفرق في التعليم بين بناته السبع وأبنائه الذكور الذين رزق بهم بعد ذلك.
ولدت في 3 مارس من عام 1917، في قرية سنبو الكبرى، مركز زفتى بمحافظة الغربية، في السنة الثانية من عمرها جاءت ثورة عام 1919 لتنادي بحرية الوطن وفتحت سميرة عينيها على أناس قريتها الذين يجتمعون باستمرار في دار الحاج موسى يناقشون الأمور السياسية المستجدة ويرددون شعارات الاستقلال الغالية، هيأ هذا المناخ لسميرة أن تصاغ امرأة وطنية تعتز بمصريتها وعروبتها دائمًا.. وعندما شبت فتاة يافعة وضحى والدها الحاج موسى بكثير من التقاليد السائدة ليقف إلى جانب ابنته حتى تكمل مسيرتها التعليمية.. وسط تشجيع من حوله بالاهتمام بهذه النابغة وكان من حسن طالعها أنها ولدت في مناخ ثورة غيرت وجه الحياة في مصر.. هي ثورة 1919.. وهي ثورة لم تأت بالبرلمان والدستور والأحزاب وحرية الصحافة فقط.. وإنما جاءت بأفكار مساواة المرأة بالرجل.. وحقها في الاختيار والتعليم أيضا.. فقد جاءت الثورة بدستور 1923 الذي نص لأول مرة على أن التعليم الأولي إلزاما للجنسين دون تفرقة.. وبعد عامين.. أي في عام 1925 عرفت قريتها أول مدرسة ابتدائية.. وهو أيضا العام الذي عرفت فيه مصر الجامعة بكل ما جاءت به من تغيرات.. كانت سميرة هي أول من دخلت المدرسة .
ولا جدال أنه لولا هذا المناخ لبقيت سميرة موسى فلاحة مصرية متواضعة.. لا هم لها سوى تربية الدواجن.. وإنجاب الأطفال.. وما كانت قد فتحت باب التعليم على مصراعيه لكل من جاء بعدها في أسرتها.. وهم يحفظون لها هذا الجميل.. ويفخرون بالانتماء إليها.. وقد كانت ثورة 1919 أقرب إليها من حبل الوريد.. فهي من قرية سنبو الكبرى (اسم فرعوني يعني الساحة الكبيرة) والقرية تتبع مركز زفتى.. وزفتى دخلت التاريخ بإعلان جمهوريتها المستقلة عن مصر في أيام الثورة.. وقد تحولت إلى أسطورة بطلها يوسف الجندي.. ثم راحت الأسطورة تتسع حتى أصبحت من حق كل شخص في المركز. كان الأب موسى علي أبو سويلم مثل أي فلاح مصري.. يحلم بالولد عندما جاءته سميرة.. لتكون رابع بناته.. لكنه تقبلها وقبلها.. وفيما بعد منحه الله الولد.. فقد كانت ذريته.. سبع بنات وولدان.. ولكن شخصية الأب هي الشخصية المفتاح في حياة سميرة.. فهو رجل (مسموع الكلمة) بين أهله.. عاشق للفن والشعر.. يهوى السياسة ولا يحترفها.. كان من المقربين من السياسي الشهير ــ الذي لايزال يثير الجدل حتى الآن ــ إسماعيل صدقي الذي كان نائبا عن الدائرة في البرلمان.. بل إن الأب كان يوصف بأنه (بسمارك) وهو نفس الوصف الذي كان يوصف به إسماعيل صدقي.
وهناك رواية أصبحت أسطورة بنيت عليها حياة سميرة موسى.. هي أنه بعد وفاة سعد زغلول جاء الأب بجريدة نشرت نعيه.. وراحت سميرة تقرأ النعي الذي كان يشمل الجريدة كلها.. وفي اليوم التالي طلب مدرسها سيد البكري أن تقرأ على تلاميذ الفصل النعي.. لكنها قالت له: لماذا أقرأ الجريدة.. أستطيع أن أقول ما فيها دون الحاجة إليها.. فقد حفظتها.. وذهل المدرس.. وطلب من الأب أن يأخذ ابنته إلى القاهرة ليرعى نبوغها قبل أن يدفن في طين الريف.. واستجاب الأب.. وأخذ ابنته ورحل إلى العاصمة لتبدأ سميرة مشوارها إلى القمة. ولا أشكك في هذه الواقعة.. الكثير لم يصدقوا أن الأب قرر أن يغير حياته خوفا على عبقرية ابنته.. لكن علينا التصديق بأن المناخ السائد في ذلك الوقت بعد ثورة1919 فتح شهية الناس على التغيير إلى الأفضل.. ومن ثم كان رحيل الأب من قريته الصغيرة إلى القاهرة.. وتغيير مهنته من صاحب أطيان إلى صاحب لوكاندة هو استجابة لطموح شخصي.. حتى لو كان الحافز المباشر حافزا نبيلا هو رعاية عبقرية ابنته ..
ولو كانت الأسطورة بكاملها حقيقية فيكون الأب هو الشخص الذي يستحق التكريم والتقدير.. أنه مثل الأب في قصة جابرييل جارسيا ماركيز الذي ماتت ابنته الطاهرة قبل أن تصبح قديسة.. فراح يلف ويدور على كل الرهبان ورجال الدين بكل مستوياتهم ورتبهم الكهنوتية حتى أقنعهم بعد سنوات من الصبر والعذاب بمنح ابنته لقب قديسة.. وقبل أن يسلمه كبير الأساقفة اللقب قال له: في الحقيقة أنت القديس. فلولا الأب ما كنت ابنته قديسة.. ولولا الأب ما كانت سميرة موسى عالمة ذرة تعرف أكثر مما يجب.. وتدفع حياتها ثمنا لذلك.. إن العبقرية أو الموهبة في حاجة لحماية ورعاية.. فلا شىء ابن الصدفة أو ابن السهولة.. لا شيء يأتي بالحظ.. أو اليانصيب.. أو يهبط علينا كمائدة من السماء.. فمن رحم الصبر والحلم والدأب والمعاناة والشغل تخرج الأشياء الخالدة.. ولابد من مناخ عام يدعم ذلك.. يعطي الموهوب فرصته.. لا.. أن يقتله لو مد بموهبته قامته.. فعندما يتحول المجتمع إلى كتيبة إعدام للموهوبين فإنه في الحقيقة يكون كمن يطلق النار على نفسه.. وينتحر.
انتقل الحاج موسى مع ابنته إلى القاهرة من أجل تعليمها.. واشترى ببعض أمواله فندقا بالحسين حتى يستثمر أمواله في الحياة القاهرية. التحقت سميرة بمدرسة "قصر الشوق" الابتدائية ثم بمدرسة "بنات الأشراف" الثانوية الخاصة والتي قامت على تأسيسها وإدارتها "نبوية موسى" حصدت الطالبة سميرة الجوائز الأولى في جميع مراحل تعليمها، فقد كانت الأولى على شهادة التوجيهية عام 1935، ولم يكن فوز الفتيات بهذا المركز مألوفا في ذلك الوقت؛ حيث لم يكن يسمح لهن بدخول امتحانات التوجيهية إلا من المنازل حتى تغير هذا القرار عام 1925 بإنشاء مدرسة الأميرة فايزة، أول مدرسة ثانوية للبنات في مصر. ولقد كان لتفوقها المستمر أثر كبير على مدرستها.. حيث كانت الحكومة تقدم معونة مالية للمدرسة التي يخرج منها الأول، دفع ذلك ناظرة المدرسة نبوية موسى إلى شراء معمل خاص حينما سمعت يومًا أن سميرة تنوي الانتقال إلى مدرسة حكومية يتوفر بها معمل. ويذكر عن نبوغها أنها قامت بإعادة صياغة كتاب الجبر الحكومي في السنة الأولى الثانوية، وطبعته على نفقة أبيها الخاصة، ووزعته بالمجان على زميلاتها عام 1933.
لقد ألفت سميرة موسى كتابا في الجبر وعمرها 16 سنة.. سمته (الجبر الحديث) أهدته إلى أستاذها الفاضل محمد أفندي حلمي.. وطبع منه أبوها 300 نسخة على حسابه الخاص.. ولك أن تتصور ـ بعد كل الوعي والتفتح ـ تطلب منه ابنته التي لم تتجاوز مرحلة المراهقة أن يطبع لها كتابا في الرياضيات أو الفيزياء أو يطبع لها ديوان شعر أو مجموعة قصص قصيرة.. ما الذي يمكن أن يقول لها أفضل من المطالبة بأن تنتبه لدروسها.. وتترك هذا الكلام الفارغ الذي لا يأتي من ورائه إلا الصداع. والأب لم يكن وحده الذي تولى رعاية موهبة ابنته.. لقد دخلت سميرة مدرسة تديرها المربية الشهيرة نبوية موسى.. ولكنها سرعان ما فكرت في تركها لأنها تريد معملا والمدرسة ليس فيها معملا.. فكان أن بنت لها نبوية موسى معملا.. ووظفت أفضل مدرسي العلوم من أجلها ولست في حاجة إلى المقارنة بعد كل هذا السنوات في بعض دور التعليم التي لا تفرق في معظم الأحوال بين العلم وتجارة السلع الفاسدة التي انتهت مدة صلاحيتها.
الحلم الكبير.. يتحقق اختارت سميرة موسى كلية العلوم.. حلمها الذي كانت تصبو إليه، رغم أن مجموعها كان يؤهلها لدخول كلية الهندسة.. حينما كانت أغلى أمنية لأي فتاة هي الالتحاق بكلية الآداب.. لبست سميرة الرداء الأبيض ودخلت معامل الكلية شغوفة لتحصيل العلم وهناك لفتت نظر أستاذها الدكتور علي مشرفة، أول مصري يتولى عمادة كلية العلوم. كان د.علي مشرفة البطل الثاني في حياة سميرة موسى؛ حيث تأثرت به تأثرا مباشرًا، ليس فقط من الناحية العلمية.. بل أيضا بالجوانب الاجتماعية في شخصيته التى أثرت في صياغة عبقرية سميرة موسى هي الدكتور علي مصطفى مشرفة.. لقد ولد في دمياط في 11 يوليو 1898 وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة توتنجهام.. ثم عاد إلى انجلترا ليحصل على الدكتوراه في العلوم.. في شهور الصيف بعد أن رفض الإنجليز أن يسافر في إجازة من عمله.. وعندما فتحت الجامعة أبوابها حصل على وظيفة أستاذ في كلية العلوم وفي عام 1926 انتخب عميدا للكلية.. وبعد حوالي 10 سنوات أصبحت سميرة موسى تلميذته..
حصلت د.سميرة على بكالوريوس العلوم وكانت الأولى على دفعتها.. وعينت كأول معيدة بكلية العلوم وذلك بفضل جهود د.علي الذي دافع عن تعيينها بشدة وتجاهل احتجاجات الأساتذة الأجانب، وعلى رأسهم الإنجليزي "آيرز".
ولكن رفضت الكلية أن تعينها معيدة.. فهي سابقة لم تحدث أن تكون فتاة عضوا في هئية التدريس في الجامعة.. وهنا برز دور (الأستاذ).. الأستاذ الذي يمنح الموهبة والحماية والرعاية ولا يكتفي فقط بسرد مناهج صماء لا علاقة لما يقوله فيها بما يفعله في الحياة.. لقد جن جنون الدكتور مشرفة.. ووضعت استقالته على مكتب مدير الجامعة إذا لم تعين سميرة موسى في المكان الذي تستحقه. لايمكن المقارنة بين ما فعله الدكتور مشرفة مع تلميذته سميرة موسى.. وما فعله بعض أساتذة قسم علم النفس في آداب عين شمس الذين باعوا تلميذتهم الدكتورة آمال كمال وادعوا أنهم لم يقرؤوا رسالة الدكتوراه التي منحوها عليها درجتها العلمية بمرتبة الشرف.. وكان ذلك خوفا وضعفا من هجوم إحدى صحف الحوادث على جزء من الرسالة.. لا أحد منهم وقف بشجاعة يدافع عن قراره.. وباعوا التلميذة في أول فرصة.. إن التلميذ العظيم في حاجة إلى أستاذ عظيم.
وسافرت سميرة موسى إلى لندن وحصلت على شهادة الماجستير في موضوع التواصل الحراري للغازات ثم سافرت في بعثة إلى بريطانيا درست فيها الإشعاع النووي، وحصلت على الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة. أنجزت الرسالة في سنتين وقضت السنة الثالثة في أبحاث متصلة وصلت من خلالها إلى معادلة هامة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس.. الذرة من أجل السلام مع الأسف الشديد.. لم تدون الكتب العلمية العربية الأبحاث التي توصلت إليها د. سميرة موسى، لقد كانت تأمل أن يكون لمصر والوطن العربي مكان وسط هذا التقدم العلمي الكبير؛ حيث كانت تؤمن بأن زيادة ملكية السلاح النووي يسهم في تحقيق السلام، فإن أي دولة تتبنى فكرة السلام لا بد وأن تتحدث من موقف قوة فقد عاصرت الدكتورة سميرة ويلات الحرب وتجارب القنبلة الذرية التي دكت هيروشيما وناجازاكي في عام 1945 ولفت انتباهها الاهتمام المبكر من إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل.. وسعيها للانفراد بالتسلح النووي في المنطقة؛ حيث قامت بتأسيس هيئة الطاقة الذرية بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 وحرصت على إيفاد البعثات للتخصص في علوم الذرة فكانت دعواتها المتكررة إلى أهمية التسلح النووي، ومجاراة هذا المد العلمي المتنامي.
إن الرعاية التي عرفتها جعلتها ترد الجميل لوطنها.. ولأن الدكتوراه كانت في (خصائص امتصاص المواد لأشعة إكس) فقد أطلق المصريون على سميرة موسى لقب (مس كوري المصرية).. وكتب أحد أساتذتها في جامعة بدفورد في تقريره العلمي الذي أرسله إلى الجامعة في القاهرة.. (أن تجارب سميرة موسى قد تغير وجه الإنسانية لو وجدت المعونة الكافية) ولكن سميرة موسى لم تنتظر المعونة الكافية بل راحت تقدم خبرتها وعلمها لمساعدة مرضى السرطان في مستشفى قصر العيني. وكثيرا ما كان أهل المرضى يظنون أنها ممرضة.. ولم يكن ذلك يضايقها.. فهي تريد أن تنفذ شعارها الذي آمنت به وهو أن يكون العلاج بالراديوم (كالعلاج بالإسبرين) ولم تتوقف سميرة موسى عند حجة نقص الإمكانيات وطلبت الأب بأن يبني لها معملا.. وبالفعل اشترى الأب فدانا من الأرض على طريق الهرم لبناء المعمل.. لكن القدر وأنصار الظلام لم يمهلوها الوقت الكافي لدخوله.. فقد سافرت في منحة إلى الولايات المتحدة.. وهناك طلبوا منها والحوا أن تبقى.. وأن تحصل على الجنسية.. وأن تنفرد بمعمل حديث يكون لها.. لكنها رفضت أن تبيع وطنها بكل مغريات الآخرين.. وأصرت على العودة.
عملت د. سميرة على إنشاء هيئة الطاقة الذرية.. وتنظيم مؤتمر الذرة من أجل السلام الذي استضافته كلية العلوم وشارك فيه عدد كبير من علماء العالم. لقد كانت تأمل أن تسخر الذرة لخير الإنسان وتقتحم مجال العلاج الطبي؛ حيث كانت تقول: "أمنيتي أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل الأسبرين"، ونزلت متطوعة للخدمة في مستشفيات القصر العيني؛ للمساعدة في علاج المرضى بالمجان.
د. سميرة موسى كانت عضوا في كثير من اللجان العلمية المتخصصة على رأسها "لجنة الطاقة والوقاية من القنبلة الذرية" التي شكلتها وزارة الصحة المصرية.
د.سميرة موسى.. والجانب الآخر كانت د. سميرة مولعة بالقراءة، وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث؛ حيث الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة. أجادت استخدام النوتة والموسيقى وفن العزف على العود، كما نمت موهبتها الأخرى في فن التصوير بتخصيص جزء من بيتها للتحميض والطبع.. وكانت تحب التريكو والحياكة وتقوم بتصميم وحياكة ملابسها بنفسها. شاركت د. سميرة في جميع الأنشطة الحيوية حينما كانت طالبة بكلية العلوم. انضمت إلى ثورة الطلاب في نوفمبر عام 1932 والتي قامت احتجاجا على تصريحات اللورد البريطاني "صمويل" وشاركت في مشروع القرش لإقامة مصنع محلي للطرابيش.. وكان د. علي مشرفة من المشرفين على هذا المشروع، وشاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة والتي هدفت إلى محو الأمية في الريف المصري، وجماعة النهضة الاجتماعية والتي هدفت إلى تجميع التبرعات؛ مساعدة الأسر الفقيرة، كما انضمت أيضًا إلى جماعة إنقاذ الطفولة المشردة، وإنقاذ الأسر الفقيرة.
تأثرت د. سميرة بإسهامات المسلمين الأوائل.. متأثرة بأستاذها أيضا د.علي مشرفة ولها مقالة عن محمد الخوارزمي ودوره في إنشاء علوم الجبر، ولها عدة مقالات أخرى من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية أثرها وطرق الوقاية منها شرحت فيها ماهية الذرة من حيث تاريخها وبنائها، وتحدثت عن الانشطار النووي وآثاره المدمرة وخواص الأشعة وتأثيرها البيولوجي.
وقد أوضحت جانبا من فكرها العلمي في مقالة: "ما ينبغي علينا نحو العلم"؛ حيث حثت الدكتورة سميرة الحكومات على أن تفرد للعلم المكان الأول في المجتمع، وأن تهتم بترقية الصناعات وزيادة الإنتاج والحرص على تيسير المواصلات.. كما كانت دعوتها إلى التعاون العلمي العالي على أوسع نطاق.
سافرت د.سميرة موسى إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا ولم تنبهر ببريقها أو تنخدع بمغرياتها. ففي خطاب إلى والدها قالت: "ليست هناك في أمريكا عادات وتقاليد كتلك التي نعرفها في مصر، يبدأون كل شيء ارتجاليا.. فالأمريكان خليط من مختلف الشعوب، كثيرون منهم جاءوا إلى هنا لا يحملون شيئا على الإطلاق فكانت تصرفاتهم في الغالب كتصرف زائر غريب يسافر إلى بلد يعتقد أنه ليس هناك من سوف ينتقده؛ لأنه غريب.
استجابت الدكتورة إلى دعوة للسفر إلى أمريكا في عام 1951، أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، تلقت عروضا لكي تبقى في أمريكا لكنها رفضت بقولها:"ينتظرني وطنٌ غالٍ يسمى مصر"، وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في 15 أغسطس، لكن قرارا سريا كان قد صدر بأن لا تعود.. وإذا عادت فلتعد جثة هامدة في تابوت. كان ذلك في أغسطس 1952 في ذلك الوقت كان العالم لا يزال مفزوعا.. محروقا بإشعاع القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي.. وفي ذلك الوقت أيضا كان الإسرائيليون يخشون السلطة الثورية الجديدة التي استولت على الحكم في مصر قبل حوالي 3 أسابيع فقط من قتل سميرة موسى.. إن كل هذه التغيرات ساهمت في سرعة التخلص من سميرة موسى..
ومن كل عالم يمكن أن يؤمن بلاده بقنبلة نووية.. ويمكن أن نعتبر سميرة موسى أول الضحايا في مسلسل دموي شرس.. راح ضحيته 146 عالم ذرة في دول العالم الثالث في الفترة من عام 1959 إلى عام 1985.. على رأسهم الهند وباكستان وجنوب أفريقيا ومصر، حسب إحصائيات لوكالة الطاقة الذرية في فيينا.. وحسب نفس المصدر فإن 98% من الضحايا قتلوا خارج بلادهم ولم يعرف الجناة.. و92% تلقوا عروضا للعمل في دول أكثر تقدما في البحث العلمي من بلادهم.. ولكنهم رفضوا.. ونصفهم على الأقل مات بالرصاص.. أما النصف الآخر فقد قتل بوسائل متنوعة.. سم.. حادث سيارة.. تفجير بيته عن بعد.. وفي معظم الحالات لم تطلب دول الضحايا تحقيقا أو تعويضا.. بل كانت تفضل عدم الكشف عن الجناة ولا فتح القضايا لأسباب بدت فيها السياسة الخارجية أكثر تأثيرا عليها من السياسة الداخلية.
ففي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت سيارة نقل فجأة؛ لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادٍ عميق، قفز سائق السيارة واختفى إلى الأبد دفعت سيارتها بقوة من الخلف فسقطت في الهاوية، وكان واضحا أن السائق المدرب كان يعرف بما سيحدث فقد قفز من السيارة في الوقت المناسب وظهر أنه كان يحمل اسما مستعارا وأن إدارة المفاعل لم تبعث بأحد لاصطحابها. أين سيارة النقل التي ظهرت في طريقها؟ ومن كان فيها؟ أين ما توصلت إليه الشرطة الأمريكية؟ ولماذا قيدت القضية ضد مجهول؟..أين ..أين؟ هل ماتت سميرة ميتة عادية أم أنه حادث اغتيال؟ أم أن مطاردة علماء الذرة المصريين والعرب خطة إسرائيلية.. أمريكية قديمة.. خطة فيها الاختيار واضحا.. قاطعا ..الهجرة من بلادهم أو الموت.. وقد اختارت سميرة موسى الوطن.. فكان أن عادت إليه جثة محنطة في تابوت.. وأن وضعت فيه بكامل أناقتها.. عاد جثمانها إلى مصر. لكن بقي علمها وعقلها هناك.. في هوة سحيقة لا تعرف الرحمة.
نشر الخبر في آخر صفحة من جريدة المصري في 19 أغسطس عام 1952.. أعلن هذا الخبر وفاة الدكتورة سميرة موسى.. عالمة الذرة من قرية سنبو الكبرى.. ميس كوري الشرق.. أول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا):
قال المتحدث باسم السفارة المصرية في واشنطن ذلك اليوم: "إن الآنسة سميرة موسى علي الطالبة المصرية التي تتلقى العلم في الولايات المتحدة قُتلت في حادث سيارة بعد أن أتمت دراستها في جامعة "أوكردج" بولاية تنيسي الأمريكية".
هكذا.. غربت شمس هذه العالمة الجليلة في 15 أغسطس عام 1952 سلمت إلى والدها نوتة سوداء صغيرة كانت تسجل فيها خواطرها وكانت آخر ما خطته فيها ثم غربت الشمس.
ولدت في 3 مارس من عام 1917، في قرية سنبو الكبرى، مركز زفتى بمحافظة الغربية، في السنة الثانية من عمرها جاءت ثورة عام 1919 لتنادي بحرية الوطن وفتحت سميرة عينيها على أناس قريتها الذين يجتمعون باستمرار في دار الحاج موسى يناقشون الأمور السياسية المستجدة ويرددون شعارات الاستقلال الغالية، هيأ هذا المناخ لسميرة أن تصاغ امرأة وطنية تعتز بمصريتها وعروبتها دائمًا.. وعندما شبت فتاة يافعة وضحى والدها الحاج موسى بكثير من التقاليد السائدة ليقف إلى جانب ابنته حتى تكمل مسيرتها التعليمية.. وسط تشجيع من حوله بالاهتمام بهذه النابغة وكان من حسن طالعها أنها ولدت في مناخ ثورة غيرت وجه الحياة في مصر.. هي ثورة 1919.. وهي ثورة لم تأت بالبرلمان والدستور والأحزاب وحرية الصحافة فقط.. وإنما جاءت بأفكار مساواة المرأة بالرجل.. وحقها في الاختيار والتعليم أيضا.. فقد جاءت الثورة بدستور 1923 الذي نص لأول مرة على أن التعليم الأولي إلزاما للجنسين دون تفرقة.. وبعد عامين.. أي في عام 1925 عرفت قريتها أول مدرسة ابتدائية.. وهو أيضا العام الذي عرفت فيه مصر الجامعة بكل ما جاءت به من تغيرات.. كانت سميرة هي أول من دخلت المدرسة .
ولا جدال أنه لولا هذا المناخ لبقيت سميرة موسى فلاحة مصرية متواضعة.. لا هم لها سوى تربية الدواجن.. وإنجاب الأطفال.. وما كانت قد فتحت باب التعليم على مصراعيه لكل من جاء بعدها في أسرتها.. وهم يحفظون لها هذا الجميل.. ويفخرون بالانتماء إليها.. وقد كانت ثورة 1919 أقرب إليها من حبل الوريد.. فهي من قرية سنبو الكبرى (اسم فرعوني يعني الساحة الكبيرة) والقرية تتبع مركز زفتى.. وزفتى دخلت التاريخ بإعلان جمهوريتها المستقلة عن مصر في أيام الثورة.. وقد تحولت إلى أسطورة بطلها يوسف الجندي.. ثم راحت الأسطورة تتسع حتى أصبحت من حق كل شخص في المركز. كان الأب موسى علي أبو سويلم مثل أي فلاح مصري.. يحلم بالولد عندما جاءته سميرة.. لتكون رابع بناته.. لكنه تقبلها وقبلها.. وفيما بعد منحه الله الولد.. فقد كانت ذريته.. سبع بنات وولدان.. ولكن شخصية الأب هي الشخصية المفتاح في حياة سميرة.. فهو رجل (مسموع الكلمة) بين أهله.. عاشق للفن والشعر.. يهوى السياسة ولا يحترفها.. كان من المقربين من السياسي الشهير ــ الذي لايزال يثير الجدل حتى الآن ــ إسماعيل صدقي الذي كان نائبا عن الدائرة في البرلمان.. بل إن الأب كان يوصف بأنه (بسمارك) وهو نفس الوصف الذي كان يوصف به إسماعيل صدقي.
وهناك رواية أصبحت أسطورة بنيت عليها حياة سميرة موسى.. هي أنه بعد وفاة سعد زغلول جاء الأب بجريدة نشرت نعيه.. وراحت سميرة تقرأ النعي الذي كان يشمل الجريدة كلها.. وفي اليوم التالي طلب مدرسها سيد البكري أن تقرأ على تلاميذ الفصل النعي.. لكنها قالت له: لماذا أقرأ الجريدة.. أستطيع أن أقول ما فيها دون الحاجة إليها.. فقد حفظتها.. وذهل المدرس.. وطلب من الأب أن يأخذ ابنته إلى القاهرة ليرعى نبوغها قبل أن يدفن في طين الريف.. واستجاب الأب.. وأخذ ابنته ورحل إلى العاصمة لتبدأ سميرة مشوارها إلى القمة. ولا أشكك في هذه الواقعة.. الكثير لم يصدقوا أن الأب قرر أن يغير حياته خوفا على عبقرية ابنته.. لكن علينا التصديق بأن المناخ السائد في ذلك الوقت بعد ثورة1919 فتح شهية الناس على التغيير إلى الأفضل.. ومن ثم كان رحيل الأب من قريته الصغيرة إلى القاهرة.. وتغيير مهنته من صاحب أطيان إلى صاحب لوكاندة هو استجابة لطموح شخصي.. حتى لو كان الحافز المباشر حافزا نبيلا هو رعاية عبقرية ابنته ..
ولو كانت الأسطورة بكاملها حقيقية فيكون الأب هو الشخص الذي يستحق التكريم والتقدير.. أنه مثل الأب في قصة جابرييل جارسيا ماركيز الذي ماتت ابنته الطاهرة قبل أن تصبح قديسة.. فراح يلف ويدور على كل الرهبان ورجال الدين بكل مستوياتهم ورتبهم الكهنوتية حتى أقنعهم بعد سنوات من الصبر والعذاب بمنح ابنته لقب قديسة.. وقبل أن يسلمه كبير الأساقفة اللقب قال له: في الحقيقة أنت القديس. فلولا الأب ما كنت ابنته قديسة.. ولولا الأب ما كانت سميرة موسى عالمة ذرة تعرف أكثر مما يجب.. وتدفع حياتها ثمنا لذلك.. إن العبقرية أو الموهبة في حاجة لحماية ورعاية.. فلا شىء ابن الصدفة أو ابن السهولة.. لا شيء يأتي بالحظ.. أو اليانصيب.. أو يهبط علينا كمائدة من السماء.. فمن رحم الصبر والحلم والدأب والمعاناة والشغل تخرج الأشياء الخالدة.. ولابد من مناخ عام يدعم ذلك.. يعطي الموهوب فرصته.. لا.. أن يقتله لو مد بموهبته قامته.. فعندما يتحول المجتمع إلى كتيبة إعدام للموهوبين فإنه في الحقيقة يكون كمن يطلق النار على نفسه.. وينتحر.
انتقل الحاج موسى مع ابنته إلى القاهرة من أجل تعليمها.. واشترى ببعض أمواله فندقا بالحسين حتى يستثمر أمواله في الحياة القاهرية. التحقت سميرة بمدرسة "قصر الشوق" الابتدائية ثم بمدرسة "بنات الأشراف" الثانوية الخاصة والتي قامت على تأسيسها وإدارتها "نبوية موسى" حصدت الطالبة سميرة الجوائز الأولى في جميع مراحل تعليمها، فقد كانت الأولى على شهادة التوجيهية عام 1935، ولم يكن فوز الفتيات بهذا المركز مألوفا في ذلك الوقت؛ حيث لم يكن يسمح لهن بدخول امتحانات التوجيهية إلا من المنازل حتى تغير هذا القرار عام 1925 بإنشاء مدرسة الأميرة فايزة، أول مدرسة ثانوية للبنات في مصر. ولقد كان لتفوقها المستمر أثر كبير على مدرستها.. حيث كانت الحكومة تقدم معونة مالية للمدرسة التي يخرج منها الأول، دفع ذلك ناظرة المدرسة نبوية موسى إلى شراء معمل خاص حينما سمعت يومًا أن سميرة تنوي الانتقال إلى مدرسة حكومية يتوفر بها معمل. ويذكر عن نبوغها أنها قامت بإعادة صياغة كتاب الجبر الحكومي في السنة الأولى الثانوية، وطبعته على نفقة أبيها الخاصة، ووزعته بالمجان على زميلاتها عام 1933.
لقد ألفت سميرة موسى كتابا في الجبر وعمرها 16 سنة.. سمته (الجبر الحديث) أهدته إلى أستاذها الفاضل محمد أفندي حلمي.. وطبع منه أبوها 300 نسخة على حسابه الخاص.. ولك أن تتصور ـ بعد كل الوعي والتفتح ـ تطلب منه ابنته التي لم تتجاوز مرحلة المراهقة أن يطبع لها كتابا في الرياضيات أو الفيزياء أو يطبع لها ديوان شعر أو مجموعة قصص قصيرة.. ما الذي يمكن أن يقول لها أفضل من المطالبة بأن تنتبه لدروسها.. وتترك هذا الكلام الفارغ الذي لا يأتي من ورائه إلا الصداع. والأب لم يكن وحده الذي تولى رعاية موهبة ابنته.. لقد دخلت سميرة مدرسة تديرها المربية الشهيرة نبوية موسى.. ولكنها سرعان ما فكرت في تركها لأنها تريد معملا والمدرسة ليس فيها معملا.. فكان أن بنت لها نبوية موسى معملا.. ووظفت أفضل مدرسي العلوم من أجلها ولست في حاجة إلى المقارنة بعد كل هذا السنوات في بعض دور التعليم التي لا تفرق في معظم الأحوال بين العلم وتجارة السلع الفاسدة التي انتهت مدة صلاحيتها.
الحلم الكبير.. يتحقق اختارت سميرة موسى كلية العلوم.. حلمها الذي كانت تصبو إليه، رغم أن مجموعها كان يؤهلها لدخول كلية الهندسة.. حينما كانت أغلى أمنية لأي فتاة هي الالتحاق بكلية الآداب.. لبست سميرة الرداء الأبيض ودخلت معامل الكلية شغوفة لتحصيل العلم وهناك لفتت نظر أستاذها الدكتور علي مشرفة، أول مصري يتولى عمادة كلية العلوم. كان د.علي مشرفة البطل الثاني في حياة سميرة موسى؛ حيث تأثرت به تأثرا مباشرًا، ليس فقط من الناحية العلمية.. بل أيضا بالجوانب الاجتماعية في شخصيته التى أثرت في صياغة عبقرية سميرة موسى هي الدكتور علي مصطفى مشرفة.. لقد ولد في دمياط في 11 يوليو 1898 وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة توتنجهام.. ثم عاد إلى انجلترا ليحصل على الدكتوراه في العلوم.. في شهور الصيف بعد أن رفض الإنجليز أن يسافر في إجازة من عمله.. وعندما فتحت الجامعة أبوابها حصل على وظيفة أستاذ في كلية العلوم وفي عام 1926 انتخب عميدا للكلية.. وبعد حوالي 10 سنوات أصبحت سميرة موسى تلميذته..
حصلت د.سميرة على بكالوريوس العلوم وكانت الأولى على دفعتها.. وعينت كأول معيدة بكلية العلوم وذلك بفضل جهود د.علي الذي دافع عن تعيينها بشدة وتجاهل احتجاجات الأساتذة الأجانب، وعلى رأسهم الإنجليزي "آيرز".
ولكن رفضت الكلية أن تعينها معيدة.. فهي سابقة لم تحدث أن تكون فتاة عضوا في هئية التدريس في الجامعة.. وهنا برز دور (الأستاذ).. الأستاذ الذي يمنح الموهبة والحماية والرعاية ولا يكتفي فقط بسرد مناهج صماء لا علاقة لما يقوله فيها بما يفعله في الحياة.. لقد جن جنون الدكتور مشرفة.. ووضعت استقالته على مكتب مدير الجامعة إذا لم تعين سميرة موسى في المكان الذي تستحقه. لايمكن المقارنة بين ما فعله الدكتور مشرفة مع تلميذته سميرة موسى.. وما فعله بعض أساتذة قسم علم النفس في آداب عين شمس الذين باعوا تلميذتهم الدكتورة آمال كمال وادعوا أنهم لم يقرؤوا رسالة الدكتوراه التي منحوها عليها درجتها العلمية بمرتبة الشرف.. وكان ذلك خوفا وضعفا من هجوم إحدى صحف الحوادث على جزء من الرسالة.. لا أحد منهم وقف بشجاعة يدافع عن قراره.. وباعوا التلميذة في أول فرصة.. إن التلميذ العظيم في حاجة إلى أستاذ عظيم.
وسافرت سميرة موسى إلى لندن وحصلت على شهادة الماجستير في موضوع التواصل الحراري للغازات ثم سافرت في بعثة إلى بريطانيا درست فيها الإشعاع النووي، وحصلت على الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة. أنجزت الرسالة في سنتين وقضت السنة الثالثة في أبحاث متصلة وصلت من خلالها إلى معادلة هامة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس.. الذرة من أجل السلام مع الأسف الشديد.. لم تدون الكتب العلمية العربية الأبحاث التي توصلت إليها د. سميرة موسى، لقد كانت تأمل أن يكون لمصر والوطن العربي مكان وسط هذا التقدم العلمي الكبير؛ حيث كانت تؤمن بأن زيادة ملكية السلاح النووي يسهم في تحقيق السلام، فإن أي دولة تتبنى فكرة السلام لا بد وأن تتحدث من موقف قوة فقد عاصرت الدكتورة سميرة ويلات الحرب وتجارب القنبلة الذرية التي دكت هيروشيما وناجازاكي في عام 1945 ولفت انتباهها الاهتمام المبكر من إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل.. وسعيها للانفراد بالتسلح النووي في المنطقة؛ حيث قامت بتأسيس هيئة الطاقة الذرية بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 وحرصت على إيفاد البعثات للتخصص في علوم الذرة فكانت دعواتها المتكررة إلى أهمية التسلح النووي، ومجاراة هذا المد العلمي المتنامي.
إن الرعاية التي عرفتها جعلتها ترد الجميل لوطنها.. ولأن الدكتوراه كانت في (خصائص امتصاص المواد لأشعة إكس) فقد أطلق المصريون على سميرة موسى لقب (مس كوري المصرية).. وكتب أحد أساتذتها في جامعة بدفورد في تقريره العلمي الذي أرسله إلى الجامعة في القاهرة.. (أن تجارب سميرة موسى قد تغير وجه الإنسانية لو وجدت المعونة الكافية) ولكن سميرة موسى لم تنتظر المعونة الكافية بل راحت تقدم خبرتها وعلمها لمساعدة مرضى السرطان في مستشفى قصر العيني. وكثيرا ما كان أهل المرضى يظنون أنها ممرضة.. ولم يكن ذلك يضايقها.. فهي تريد أن تنفذ شعارها الذي آمنت به وهو أن يكون العلاج بالراديوم (كالعلاج بالإسبرين) ولم تتوقف سميرة موسى عند حجة نقص الإمكانيات وطلبت الأب بأن يبني لها معملا.. وبالفعل اشترى الأب فدانا من الأرض على طريق الهرم لبناء المعمل.. لكن القدر وأنصار الظلام لم يمهلوها الوقت الكافي لدخوله.. فقد سافرت في منحة إلى الولايات المتحدة.. وهناك طلبوا منها والحوا أن تبقى.. وأن تحصل على الجنسية.. وأن تنفرد بمعمل حديث يكون لها.. لكنها رفضت أن تبيع وطنها بكل مغريات الآخرين.. وأصرت على العودة.
عملت د. سميرة على إنشاء هيئة الطاقة الذرية.. وتنظيم مؤتمر الذرة من أجل السلام الذي استضافته كلية العلوم وشارك فيه عدد كبير من علماء العالم. لقد كانت تأمل أن تسخر الذرة لخير الإنسان وتقتحم مجال العلاج الطبي؛ حيث كانت تقول: "أمنيتي أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل الأسبرين"، ونزلت متطوعة للخدمة في مستشفيات القصر العيني؛ للمساعدة في علاج المرضى بالمجان.
د. سميرة موسى كانت عضوا في كثير من اللجان العلمية المتخصصة على رأسها "لجنة الطاقة والوقاية من القنبلة الذرية" التي شكلتها وزارة الصحة المصرية.
د.سميرة موسى.. والجانب الآخر كانت د. سميرة مولعة بالقراءة، وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث؛ حيث الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة. أجادت استخدام النوتة والموسيقى وفن العزف على العود، كما نمت موهبتها الأخرى في فن التصوير بتخصيص جزء من بيتها للتحميض والطبع.. وكانت تحب التريكو والحياكة وتقوم بتصميم وحياكة ملابسها بنفسها. شاركت د. سميرة في جميع الأنشطة الحيوية حينما كانت طالبة بكلية العلوم. انضمت إلى ثورة الطلاب في نوفمبر عام 1932 والتي قامت احتجاجا على تصريحات اللورد البريطاني "صمويل" وشاركت في مشروع القرش لإقامة مصنع محلي للطرابيش.. وكان د. علي مشرفة من المشرفين على هذا المشروع، وشاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة والتي هدفت إلى محو الأمية في الريف المصري، وجماعة النهضة الاجتماعية والتي هدفت إلى تجميع التبرعات؛ مساعدة الأسر الفقيرة، كما انضمت أيضًا إلى جماعة إنقاذ الطفولة المشردة، وإنقاذ الأسر الفقيرة.
تأثرت د. سميرة بإسهامات المسلمين الأوائل.. متأثرة بأستاذها أيضا د.علي مشرفة ولها مقالة عن محمد الخوارزمي ودوره في إنشاء علوم الجبر، ولها عدة مقالات أخرى من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية أثرها وطرق الوقاية منها شرحت فيها ماهية الذرة من حيث تاريخها وبنائها، وتحدثت عن الانشطار النووي وآثاره المدمرة وخواص الأشعة وتأثيرها البيولوجي.
وقد أوضحت جانبا من فكرها العلمي في مقالة: "ما ينبغي علينا نحو العلم"؛ حيث حثت الدكتورة سميرة الحكومات على أن تفرد للعلم المكان الأول في المجتمع، وأن تهتم بترقية الصناعات وزيادة الإنتاج والحرص على تيسير المواصلات.. كما كانت دعوتها إلى التعاون العلمي العالي على أوسع نطاق.
سافرت د.سميرة موسى إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا ولم تنبهر ببريقها أو تنخدع بمغرياتها. ففي خطاب إلى والدها قالت: "ليست هناك في أمريكا عادات وتقاليد كتلك التي نعرفها في مصر، يبدأون كل شيء ارتجاليا.. فالأمريكان خليط من مختلف الشعوب، كثيرون منهم جاءوا إلى هنا لا يحملون شيئا على الإطلاق فكانت تصرفاتهم في الغالب كتصرف زائر غريب يسافر إلى بلد يعتقد أنه ليس هناك من سوف ينتقده؛ لأنه غريب.
استجابت الدكتورة إلى دعوة للسفر إلى أمريكا في عام 1951، أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، تلقت عروضا لكي تبقى في أمريكا لكنها رفضت بقولها:"ينتظرني وطنٌ غالٍ يسمى مصر"، وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في 15 أغسطس، لكن قرارا سريا كان قد صدر بأن لا تعود.. وإذا عادت فلتعد جثة هامدة في تابوت. كان ذلك في أغسطس 1952 في ذلك الوقت كان العالم لا يزال مفزوعا.. محروقا بإشعاع القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي.. وفي ذلك الوقت أيضا كان الإسرائيليون يخشون السلطة الثورية الجديدة التي استولت على الحكم في مصر قبل حوالي 3 أسابيع فقط من قتل سميرة موسى.. إن كل هذه التغيرات ساهمت في سرعة التخلص من سميرة موسى..
ومن كل عالم يمكن أن يؤمن بلاده بقنبلة نووية.. ويمكن أن نعتبر سميرة موسى أول الضحايا في مسلسل دموي شرس.. راح ضحيته 146 عالم ذرة في دول العالم الثالث في الفترة من عام 1959 إلى عام 1985.. على رأسهم الهند وباكستان وجنوب أفريقيا ومصر، حسب إحصائيات لوكالة الطاقة الذرية في فيينا.. وحسب نفس المصدر فإن 98% من الضحايا قتلوا خارج بلادهم ولم يعرف الجناة.. و92% تلقوا عروضا للعمل في دول أكثر تقدما في البحث العلمي من بلادهم.. ولكنهم رفضوا.. ونصفهم على الأقل مات بالرصاص.. أما النصف الآخر فقد قتل بوسائل متنوعة.. سم.. حادث سيارة.. تفجير بيته عن بعد.. وفي معظم الحالات لم تطلب دول الضحايا تحقيقا أو تعويضا.. بل كانت تفضل عدم الكشف عن الجناة ولا فتح القضايا لأسباب بدت فيها السياسة الخارجية أكثر تأثيرا عليها من السياسة الداخلية.
ففي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت سيارة نقل فجأة؛ لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادٍ عميق، قفز سائق السيارة واختفى إلى الأبد دفعت سيارتها بقوة من الخلف فسقطت في الهاوية، وكان واضحا أن السائق المدرب كان يعرف بما سيحدث فقد قفز من السيارة في الوقت المناسب وظهر أنه كان يحمل اسما مستعارا وأن إدارة المفاعل لم تبعث بأحد لاصطحابها. أين سيارة النقل التي ظهرت في طريقها؟ ومن كان فيها؟ أين ما توصلت إليه الشرطة الأمريكية؟ ولماذا قيدت القضية ضد مجهول؟..أين ..أين؟ هل ماتت سميرة ميتة عادية أم أنه حادث اغتيال؟ أم أن مطاردة علماء الذرة المصريين والعرب خطة إسرائيلية.. أمريكية قديمة.. خطة فيها الاختيار واضحا.. قاطعا ..الهجرة من بلادهم أو الموت.. وقد اختارت سميرة موسى الوطن.. فكان أن عادت إليه جثة محنطة في تابوت.. وأن وضعت فيه بكامل أناقتها.. عاد جثمانها إلى مصر. لكن بقي علمها وعقلها هناك.. في هوة سحيقة لا تعرف الرحمة.
نشر الخبر في آخر صفحة من جريدة المصري في 19 أغسطس عام 1952.. أعلن هذا الخبر وفاة الدكتورة سميرة موسى.. عالمة الذرة من قرية سنبو الكبرى.. ميس كوري الشرق.. أول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا):
قال المتحدث باسم السفارة المصرية في واشنطن ذلك اليوم: "إن الآنسة سميرة موسى علي الطالبة المصرية التي تتلقى العلم في الولايات المتحدة قُتلت في حادث سيارة بعد أن أتمت دراستها في جامعة "أوكردج" بولاية تنيسي الأمريكية".
هكذا.. غربت شمس هذه العالمة الجليلة في 15 أغسطس عام 1952 سلمت إلى والدها نوتة سوداء صغيرة كانت تسجل فيها خواطرها وكانت آخر ما خطته فيها ثم غربت الشمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق